فصل: مسألة‏:‏الاختلاف في القتيل بوجد في المحلة التي أكراها أربابها

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏63‏)‏

‏{‏وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور‏}‏ هذه الآية تفسر معنى قوله تعالى‏{‏وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة‏}‏الأعراف‏:‏ 171‏]‏‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ المعنى زعزعناه فاستخرجناه من مكانه‏.‏ قال‏:‏ وكل شيء قلعته فرميت به فقد نتقته‏.‏ وقيل‏:‏ نتقناه رفعناه‏.‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ الناتق الرافع، والناتق الباسط، والناتق الفاتق‏.‏ وامرأة ناتق ومنتاق‏:‏ كثيرة الولد‏.‏ وقال القتبي‏:‏ أخذ ذلك من نتق السقاء، وهو نفضه حتى تقتلع الزبدة منه‏.‏ قال وقوله‏{‏وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة‏}‏ قال‏:‏ قلع من أصله‏.‏

واختلف في الطور، فقيل‏:‏ الطور اسم للجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام وأنزل عليه فيه التوراة دون غيره، رواه ابن جريج عن ابن عباس‏.‏ و روى الضحاك عنه أن الطور ما أنبت من الجبال خاصة دون ما لم ينبت‏.‏ وقال مجاهد وقتادة‏:‏ أي جبل كان‏.‏ إلا أن مجاهدا قال‏:‏ هو اسم لكل جبل بالسريانية، وقال أبو العالية‏.‏ وقد مضى الكلام هل وقع في القرآن ألفاظ مفردة غير معربة من غير كلام في مقدمة الكتاب‏.‏ والحمد لله‏.‏ وزعم البكري أنه سمي بطور بن إسماعيل عليه السلام، والله تعالى أعلم‏.‏

 القول في سبب رفع الطور

وذلك أن موسى عليه السلام لما جاء بني إسرائيل من عند الله بالألواح فيها التوراة قال لهم‏:‏ خذوها والتزموها‏.‏ فقالوا‏:‏ لا‏!‏ إلا أن يكلمنا الله بها كما كلمك‏.‏ فصعقوا ثم أحيوا‏.‏ فقال لهم‏:‏ خذوها‏.‏ فقالوا لا، فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله، وكذلك كان عسكرهم، فجعل عليهم مثل الظلة، وأتوا ببحر من خلفهم، ونار من قبل وجوههم، وقيل لهم‏:‏ خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيعوها، وإلا سقط عليكم الجبل‏.‏ فسجدوا توبة الله وأخذوا التوراة بالميثاق‏.‏ قال الطبري عن بعض العلماء‏:‏ لو أخذوها أول مرة لم يكن عليهم ميثاق‏.‏ وكان سجودهم على شق، لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفا، فلما رحمهم الله قالوا‏:‏ لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها عباده، فأمروا سجودهم على شق واحد‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والذي لا يصح سواه أن الله تعالى اخترع وقت سجودهم الإيمان في قلوبهم لا أنهم آمنوا كرها وقلوبهم غير مطمئنة بذلك‏.‏

قوله تعالى‏{‏خذوا‏}‏ أي فقلنا خذوا، فحذف‏.‏ ‏{‏ما آتيناكم‏}‏ أعطيناكم‏.‏ ‏{‏بقوة‏}‏ أي بجد واجتهاد، قال ابن عباس وقتادة والسدي‏.‏ وقيل‏:‏ بنية وإخلاص‏.‏ مجاهد‏:‏ القوة العمل بما فيه‏.‏ وقيل‏:‏ بقوة، بكثرة درس‏.‏ ‏{‏واذكروا ما فيه‏{‏ أي تدبروه واحفظوا أوامره ووعيده، ولا تنسوه ولا تضيعوه‏.‏

قلت‏:‏ هذا هو المقصود من الكتب، العمل بمقتضاها لا تلاوتها باللسان وترتيلها، فإن ذلك نبذ لها، على ما قاله الشعبي وابن عيينة، وسيأتي قولهما عند قوله تعالى‏{‏نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب‏}‏البقرة‏:‏ 101]‏‏.‏ وقد ‏"‏روى النسائي عن أبي سعيد الخدري‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن من شر الناس وجلا فاسقا يقرأ القرآن لا يرعوي إلى شيء منه‏)‏‏.‏ فبين صلى الله عليه وسلم أن المقصود العمل كما بينا‏.‏ وقال مالك‏:‏ قد يقرأ القرآن من لا خير فيه‏.‏ فما لزم إذا من قبلنا وأخذ عليهم لازم لنا وواجب علينا‏.‏ قال الله تعالى‏{‏واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم‏}‏الزمر‏:‏ 55‏]‏ فأمرنا باتباع كتابه والعمل بمقتضاه، لكن تركنا ذلك، كما تركت اليهود والنصارى، وبقيت أشخاص الكتب والمصاحف لا تفيد شيئا، لغلبة الجهل وطلب الرياسة واتباع الأهواء‏.‏ ‏"‏روى الترمذي عن جبير‏"‏ بن نفير عن أبي الدرداء قال‏:‏ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فشخص ببصره إلى السماء ثم قال‏:‏ ‏(‏هذا أوان يختلس فيه العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء‏)‏‏.‏ فقال زياد بن لبيد الأنصاري‏:‏ كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن‏!‏ فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏ثكلتك أمك يا زياد أن كنت لأعدك من فقهاء المدينة هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم‏)‏ وذكر الحديث، وسيأتي‏.‏‏"‏ وخرجه النسائي‏"‏ من حديث جبير بن نفير أيضا عن عوف بن مالك الأشجعي من طريق صحيحة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزياد‏:‏ ‏(‏ثكلتك أمك يا زياد هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى‏)‏‏.‏‏"‏ وفي الموطأ‏"‏ عن عبدا لله بن مسعود قال لإنسان‏{‏إنك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه، تحفظ فيه حدود القرآن وتضيع حروفه، قليل من يسأل، كثير من يعطي، يطيلون الصلاة ويقصرون فيه الخطبة، يبدؤون فيه أعمالهم قبل أهوائهم‏.‏ وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، تحفظ فيه حروف القرآن، وتضيع حدوده، كثير من يسأل، قليل من يعطي، يطيلون فيه الخطبة، ويقصرون الصلاة، يبدؤون فيه أهواءهم قبل أعمالهم‏.‏ وهذه نصوص تدل على ما ذكرنا‏.‏ وقد قال يحيى‏:‏ سألت ابن نافع عن قوله‏.‏ يبدؤون أهواءهم قبل أعمالهم‏؟‏ قال يقول‏:‏ يتبعون أهواءهم ويتركون العمل بالذي افترض عليهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏لعلكم تتقون‏}‏ وتقدم القول في معناه فلا معنى لإعادته‏.‏

 الآية رقم ‏(‏64‏)‏

‏{‏ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ثم توليتم ‏}‏تولى تفعل، وأصله الإعراض والإدبار عن الشيء بالجسم، ثم ا ستعمل في الإعراض عن الأوامر والأديان والمعتقدات اتساعا ومجازا‏.‏

قوله تعالى‏{‏من بعد ذلك‏}‏ أي من بعد البرهان، وهو أخذ الميثاق ورفع الجبل‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلولا فضل الله عليكم‏}‏{‏فضل‏}‏ مرفوع بالابتداء عند سيبويه والخبر محذوف لا يجوز إظهاره، لأن العرب استغنت عن إظهاره، إلا أنهم إذا أرادوا إظهاره جاؤوا بأن، فإذا جاؤوا بها لم يحذفوا الخبر‏.‏ والقدير فلولا فضل الله تدارككم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ورحمته‏}‏ عطف على ‏{‏فضل‏}‏ أي لطفه وإمهاله‏.‏ ‏{‏لكنتم‏}‏ جواب ‏{‏لولا‏}‏ ‏{‏من الخاسرين‏}‏ خبر كنتم‏.‏ والخسران‏:‏ النقصان، وقد تقدم‏.‏ وقيل‏:‏ فضله قبول التوبة، و‏{‏رحمته‏}‏العفو‏.‏ والفضل‏:‏ الزيادة على ما وجب‏.‏ والإفضال‏:‏ فعل ما لم يجب‏.‏ قال ابن فارس في المجمل‏:‏ الفضل الزيادة والخير، والإفضال‏:‏ الإحسان‏.‏

 الآية رقم ‏(‏65‏)‏

‏{‏ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم‏{‏ ‏{‏علمتم‏}‏ معناه عرفتم أعيانهم‏.‏ وقيل‏:‏ علمتم أحكامهم‏.‏ والفرق بينهما أن المعرفة متوجهة إلى ذات المسمى‏.‏ والعلم متوجه إلى أحوال المسمى‏.‏ فإذا قلت‏:‏ عرفت زيدا، فالمراد شخصه وإذا قلت‏:‏ علمت زيدا، فالمراد به العلم بأحواله من فضل ونقص‏.‏ فعلى الأول يتعدى الفعل إلى مفعول واحد، وهو قول سيبويه‏{‏علمتم‏}بمعنى عرفتم‏.‏ وعلى الثاني إلى مفعولين وحكى الأخفش ولقد علمت زيدا ولم أكن أعلمه‏.‏ وفي التنزيل‏{‏لا تعلمونهم الله يعلمهم‏}‏الأنفال‏:‏ 60‏]‏ كل هذا بمعنى المعرفة، فاعلم‏.‏ ‏{‏الذين اعتدوا منكم في السبت‏}‏البقرة‏:‏ 65‏]‏ صلة ‏{‏الذين‏}‏‏.‏ والاعتداء‏.‏ التجاوز، وقد تقدم‏.‏

‏"‏روى النسائي عن صفوان بن عسال ‏"‏قال‏:‏ قال يهودي لصاحبه‏:‏ اذهب بنا إلى هذا النبي‏.‏ فقال له صاحبه‏:‏ لا تقل نبي لو سمعك فإن له أربعة أعين‏.‏ فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألاه عن تسع آيات بينات، فقال لهم‏:‏ ‏(‏لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرفوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا المحصنة ولا تولوا يوم الزحف وعليكم خاصة يهود ألا تعدوا في السبت‏)‏‏.‏ فقبلوا يديه ورجليه وقالوا‏:‏ نشهد أنك نبي‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فما يمنعكم أن تتبعوني‏)‏ قالوا‏:‏ إن داود دعا بألا يزال من ذريته نبي وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود‏"‏ وخرجه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح‏"‏‏.‏ وسيأتي لفظه في سورة ‏{‏سبحان‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏في السبت‏}‏ معناه في يوم السبت، ويحتمل أن يريد في حكم السبت‏.‏ والأول قول الحسن وأنهم أخذوا فيه الحيتان على جهة الاستحلال‏.‏ و روى أشهب عن مالك قال‏:‏ زعم ابن رومان أنهم كانوا يأخذ الرجل منهم خيطا ويضع فيه وهقة وألقاها في ذنب الحوت، وفي الطرف الآخر من الخيط وتد وتركه كذلك إلى الأحد، ثم تطرق الناس حين رأوا من صنع لا يبتلى، حتى كثر صيد الحوت ومشي به في الأسواق، وأعلن الفسقة بصيده‏.‏ فقامت فرقة فنهت وجاهرت بالنهي واعتزلت‏.‏ ويقال‏:‏ إن الناهين قالوا‏:‏ لا نساكنكم، فقسموا القرية بجدار‏.‏ فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا‏:‏ إن للناس لشأنا، فعلوا على الجدار فنظروا فإذا هم قردة، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم، فعرفت القردة أنسابها من الإنس، ولا يعرف الإنس أنسابهم من القردة، فجعلت القردة تأتي نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي، فيقول‏:‏ ألم ننهكم فتقول برأسها نعم‏.‏ قال قتادة‏:‏ صار الشبان قردة، والشيوخ خنازير، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم‏.‏ وسيأتي في ‏{‏الأعراف‏}‏ قول من قال‏:‏ إنهم كانوا ثلاث فرق‏.‏ وهو أصح من قول من قال‏:‏ إنهم لم يفترقوا إلا فرقتين‏.‏ والله أعلم‏.‏

والسبت مأخوذ من السبت وهو القطع، فقيل‏:‏ إن الأشياء سبتت وتمت خلقتها‏.‏ وقيل‏:‏ هو مأخوذ من السبوت الذي هو الراحة والدعة‏.‏

واختلف العلماء في الممسوخ هل ينسل على قولين‏.‏ قال الزجاج‏:‏ قال قوم يجوز أن تكون هذه القردة منهم‏.‏ واختاره القاضي أبو بكر بن العربي‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ الممسوخ لا ينسل وإن القردة والخنازير وغيرهما كانت قبل ذلك، والذين مسخهم الله قد هلكوا ولم يبق لهم نسل، لأنه قد أصابهم السخط والعذاب، فلم يكن لهم قرار في الدنيا بعد ثلاثة أيام‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام‏.‏

قلت‏:‏ هذا هو الصحيح من القولين‏.‏ وأما ما احتج به ابن العربي وغيره على صحة القول الأول من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدرى ما فعلت ولا أراها إلا الفأر ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته‏)‏‏.‏ ‏"‏رواه أبو هريرة أخرجه مسلم‏"‏، ‏"‏وبحديث الضب رواه مسلم‏"‏ أيضا عن أبي سعيد وجابر، قال جابر‏:‏ أتي، النبي صلى الله عليه وسلم بضب فأبى أن يأكل منه، وقال‏:‏ ‏(‏لا أدري لعله من القرون التي مسخت‏)‏ فمتأول على ما يأتي‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وفي البخاري عن عمرو بن ميمون أنه قال‏:‏ رأيت في الجاهلية قردة قد زنت فرجموها فرجمتها معهم‏.‏ ثبت في بعض نسخ البخاري وسقط في بعضها، وثبت في نص الحديث ‏{‏قد زنت‏}‏ وسقط هذا اللفظ عند بعضهم‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ فإن قيل‏:‏ وكأن البهائم بقيت فيهم معارف الشرائع حتى ورثوها خلفا عن سلف إلى زمان عمرو‏؟‏ قلنا‏:‏ نعم كذلك كان، لأن اليهود غيروا الرجم فأراد الله أن يقيمه في مسوخهم حتى يكون أبلغ في الحجة على ما أنكروه من ذلك وغيروه، حتى تشهد عليهم كتبهم وأحبارهم ومسوخهم، حتى يعلموا أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون، ويحصي ما يبدلون وما يغيرون، ويقيم عليهم الحجة من حيث لا يشعرون وينصر نبيه عليه السلام وهم لا ينصرون‏.‏

قلت‏:‏ هذا كلامه في الأحكام، ولا حجة في شيء منه‏.‏ وأما ما ذكره من قصة عمرو فذكر الحميدي في جمع الصحيحين‏:‏ حكى أبو مسعود الدمشقي أن لعمرو بن ميمون الأودي في الصحيحين حكاية من رواية حصين عنه قال‏:‏ رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة فرجموها فرجمتها معهم‏.‏ كذا حكى أبو مسعود ولم يذكر في أي موضع أخرجه البخاري من كتابه، فبحثنا عن ذلك فوجدناه في بعض النسخ لا في كلها، فذكر في كتاب أيام الجاهلية‏.‏ وليس في رواية النعيمي عن الفربري أصلا شيء من هذا الخبر في القردة، ولعلها من المقحمات في كتاب البخاري‏.‏ والذي قال البخاري في التاريخ الكبير‏:‏ قال نعيم بن حماد أخبرنا هشيم عن أبي بلج وحصين عن عمرو بن ميمون قال‏:‏ رأيت في الجاهلية فردة اجتمع عليها قرود فرجموها فرجمتها معهم‏.‏ وليس فيه ‏{‏قد زنت‏}‏‏.‏ فإن صحت هذه الرواية فإنما أخرجها البخاري دلالة على أن عمرو بن ميمون قد أدرك الجاهلية ولم يبال بظنه الذي ظنه في الجاهلية‏.‏ وذكر أبو عمر في الاستيعاب عمرو بن ميمون وأن كنيته أبو عبدالله معدود في كبار التابعين من الكوفيين، وهو الذي رأى الرجم في الجاهلية من القردة إن صح ذلك، لأن رواته مجهولون‏.‏ وقد ذكره البخاري عن نعيم عن هشيم عن حصين عن عمرو بن ميمون الأودي مختصرا قال‏:‏ رأيت في الجاهلية قردة زنت فرجموها - يعني القردة - فرجمتها معهم‏.‏ ورواه عباد بن العوام عن حصين كما رواه هشيم مختصرا‏.‏ وأما القصة بطولها فإنها تدور على عبدالملك بن مسلم عن عيسى بن حطان، وليسا ممن يحتج بهما‏.‏ وهذا عند جماعة أهل العلم منكر إضافة الزنى إلى غير مكلف، وإقامة الحدود في البهائم‏.‏ ولو صح لكانوا من الجن، لأن العبادات في الإنس والجن دون غيرهما‏‏‏.‏ وأما قوله عليه السلام في حديث أبي هريرة‏:‏ ‏(‏ولا أراها إلا الفأر‏)‏ وفي الضب‏:‏ ‏(‏لا أدري لعله من القرون التي مسخت‏)‏ وما كان مثله، فإنما كان ظنا وخوفا لأن يكون الضب والفأر وغيرهما مما مسخ، وكان هذا حدسا منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه أن الله لم يجعل للمسخ نسلا، فلما أوحى إليه بذلك زال عنه ذلك التخوف، وعلم أن الضب والفأر ليسا مما مسخ، وعند ذلك أخبرنا بقوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن القردة والخنازير‏:‏ هي مما مسخ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إن الله لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك‏)‏‏.‏ وهذا نص صريح صحيح رواه عبدالله بن مسعود ‏"‏أخرجه مسلم في كتاب القدر‏"‏‏.‏ وثبتت النصوص بأكل الضب بحضرته وعلى مائدته ولم ينكر، فدل على صحة ما ذكرنا‏.‏ وبالله توفيقنا‏.‏ وروي عن مجاهد في تفسير هذه الآية أنه إنما مسخت قلوبهم فقط، وردت أفهامهم كأفهام القردة‏.‏ ولم يقله غيره من المفسرين فيما أعلم، والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين‏}‏ ‏{‏قردة‏}‏ خبر كان‏.‏ ‏{‏خاسئين‏}‏ نعت، وإن شئت جعلته خبرا ثانيا لكان، أوحالا من الضمير في ‏{‏كونوا‏}‏‏.‏ ومعناه مبعدين‏.‏ يقال‏:‏ خسأته فخسأ وخسئ، وانخسأ أي أبعدته فبعد‏.‏ وقوله تعالى‏{‏ينقلب إليك البصر خاسئا‏}‏الملك‏:‏ 4‏]‏ أي مبعدا‏.‏ وقوله‏{‏اخسؤوا فيها‏}‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏ أي تباعدوا‏.‏ تباعد سخط‏.‏ قال الكسائي‏:‏ خسأ الرجل خسوءا، وخسأته خسأ‏.‏ ويكون الخاسئ بمعنى الصاغر القميء‏.‏ يقال‏:‏ قمؤ الرجل قماء وقماءة صار قميئا، وهو الصاغر الذليل‏.‏ وأقمأته‏:‏ صغرته وذللته، فهو قميء على فعيل‏.‏

 الآية رقم ‏(‏66‏)‏

‏{‏فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فجعلناها نكالا‏}‏ نصب على المفعول الثاني‏.‏ وفي المجعول نكالا أقاويل، قيل‏:‏ العقوبة‏.‏ وقيل‏:‏ القرية، إذ معنى الكلام يقتضيها وقيل‏:‏ الأمة التي مسخت‏.‏ وقيل‏:‏ الحيتان، وفيه بعد‏.‏ والنكال‏:‏ الزجر والعقاب‏.‏ والنكل والأنكال‏:‏ القيود‏.‏ وسميت القيود أنكالا لأنها ينكل بها، أي يمنع‏.‏ ويقال للجام الثقيل‏:‏ نَكل ونِكل، لأن الدابة تمنع به ونكل عن الأمر ينكل، ونكل ينكل إذا امتنع‏.‏ والتنكيل‏:‏ إصابة الأعداء بعقوبة تنكل من وراءهم، أي تجبنهم‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ النكال العقوبة‏.‏ ابن دريد‏:‏ والمنكل‏:‏ الشيء الذي ينكل بالإنسان، قال‏:‏

فارم على أقفائهم بمنكل

قوله تعالى‏{‏لما بين يديها‏}‏ قال ابن عباس والسدي‏:‏ لما بين يدي المسخة ما قبلها من ذنوب القوم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما خلفها‏}‏ لمن يعمل مثل تلك الذنوب‏.‏ قال الفراء‏:‏ جعلت المسخة نكالا لما مضى من الذنوب، ولما يعمل بعدها ليخافوا المسخ بذنوبهم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا قول جيد، والضميران للعقوبة‏.‏ وروى الحكم عن مجاهد عن ابن عباس‏:‏ لمن حضر معهم ولمن يأتي بعدهم‏.‏ واختاره النحاس، قال‏:‏ وهو أشبه بالمعنى، والله أعلم‏.‏ وعن ابن عباس أيضا‏.‏ ‏{‏لما بين يديها وما خلفها‏}‏من القرى‏.‏ وقال قتادة‏{‏لما بين يديها‏}‏ من ذنوبهم ‏{‏وما خلفها‏}‏ من صيد الحيتان‏.‏

قوله تعالى‏{‏وموعظة للمتقين‏}‏ عطف على نكال، ووزنها مفعلة من الاتعاظ والانزجار‏.‏ والوعظ‏:‏ التخويف‏.‏ والعظة الاسم‏.‏ قال الخليل‏:‏ الوعظ التذكير بالخير فيما يرق له القلب‏.‏ قال الماوردي‏:‏ وخص المتقين وإن كانت موعظة للعالمين لتفردهم بها عن الكافرين المعاندين قال ابن عطية‏:‏ واللفظ يعم كل متق من كل أمة وقال الزجاج ‏{‏وموعظة للمتقين‏}‏ لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن ينتهكوا من حرم الله جل وعز ما نهاهم عنه‏:‏ فيصيبهم ما أصاب أصحاب السبت إذ انتهكوا حرم الله في سبتهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏67‏)‏

‏{‏وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الله يأمركم‏}‏ حكي عن أبي عمرو أنه قرأ ‏{‏يأمركم‏}‏ بالسكون، وحذف الضمة من الراء لثقلها‏.‏ قال أبو العباس المبرد‏:‏ لا يجوز هذا لأن الراء حرف الإعراب، وإنما الصحيح عن أبي عمرو انه كان يختلس الحركة‏.‏ ‏{‏أن تذبحوا‏}‏ في موضع نصب بـ ‏{‏يأمركم‏}‏ أي بأن تذبحوا‏.‏ ‏{‏بقره‏}‏ نصب ‏{‏تذبحوا‏}‏‏.‏ وقد تقدم معنى الذبح فلا معنى لإعادته‏.‏

قوله تعالى‏{‏أن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة‏{‏ مقدم في التلاوة وقوله ‏{‏قتلتم نفسا‏}‏ مقدم في المعنى على جميع ما ابتدأ به من شأن البقرة‏.‏ ويجوز أن يكون قوله‏{‏قتلتم‏}‏ في النزول مقدما، والأمر بالذبح مؤخرا‏.‏ ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها، فكأن الله أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها ثم وقع ما وقع في أمر القتل، فأمروا أن يضربوه ببعضها، ويكون ‏{‏وإذ قتلتم‏}‏ مقدما في المعنى على القول الأول حسب ما ذكرنا، لأن الواو لا توجب الترتيب‏.‏ ونظيره في التنزيل في قصة نوج بعد ذكر الطوفان وانقضائه في قوله‏{‏حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا أحمل فيها من كل زوجين اثنين‏}‏ إلى قوله ‏{‏إلا قليل‏}‏هود‏:‏ 40‏]‏‏.‏ فذكر إهلاك من هلك منهم ثم عطف عليه بقوله‏{‏وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها‏}‏هود‏:‏ 41‏]‏‏.‏ فذكر الركوب متأخرا في الخطاب، ومعلوم أن ركوبهم كان قبل الهلاك‏.‏ وكذلك قوله تعالى‏{‏الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما‏}‏هود‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وتقديره‏:‏ أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا، ومثله في القرآن كثير‏.‏

لا خلاف بين العلماء أن الذبح أولى في الغنم، والنحر أولى في الإبل، والتخير في البقر‏.‏ وقيل‏:‏ الذبح أولى، لأنه الذي ذكره الله، ولقرب المنحر من المذبح‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ لا أعلم أحدا حرم أكل ما نحر مما يذبح، أو ذبح مما ينحر‏.‏ وكره مالك ذلك‏.‏ وقد يكره المرء الشيء ولا يحرمه‏.‏ وسيأتي في سورة ‏((‏المائدة‏))‏ أحكام الذبح والذابح وشرائطهما عند قوله تعالى‏{‏إلا ما ذكيتم‏}‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ مستوفى إن شاء الله تعالى‏.‏ قال الماوردي‏:‏ وإنما أمروا - والله أعلم - بذبح بقرة دون غيرها، لأنها من جنس ما عبدوه من العجل ليهون عندهم ما كان يرونه من تعظيمه، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من عبادته‏.‏ وهذا المعنى علة في ذبح البقرة، وليس بعلة في جواب السائل، ولكن المعنى فيه أن يحيا القتيل بقتل حي، فيكون أظهر لقدرته في اختراع الأشياء من أضدادها‏.‏

قوله تعالى‏{‏بقرة‏}‏ البقرة اسم للأنثى، والثور اسم للذكر مثل ناقه وجمل وامرأة ورجل‏.‏ وقيل‏:‏ البقرة واحد البقر، الأنثى والذكر سواء‏.‏ واصله من قولك‏:‏ بقر بطنه، أي شقه، فالبقرة تشق الأرض بالحرث وتثيره‏.‏ ومنه الباقر لأبى جعفر محمد بن علي زين العابدين، لأنه بقر العلم وعرف أصله، أي شقه‏.‏ والبقيرة‏:‏ ثوب يشق فتلقيه المرأة في عنقها من غير كمين‏.‏ وفي حديث ابن عباس في شأن الهدهد ‏(‏فبقر الأرض‏)‏‏.‏ قال شمر‏:‏ بقر نظر موضع الماء، فرأى الماء تحت الأرض‏.‏ قال الأزهري‏:‏ البقر اسم للجنس وجمعه باقر‏.‏ ابن عرفة‏:‏ يقال بقير وباقر وبيقور‏.‏ وقرأ عكرمة وابن يعمر ‏{‏إن الباقر‏}‏‏.‏ والثور‏:‏ واحد الثيران‏.‏ والثور‏:‏ السيد من الرجال‏.‏ والثور القطعة من الأقط‏.‏ والثور‏:‏ الطحلب‏.‏ وثور‏:‏ الجبل‏.‏ وثور‏:‏ قبيلة من العرب‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏ووقت العشاء ما لم يغب ثور الشفق‏)‏ يعني انتشاره، يقال‏:‏ ثار يثور ثورا وثورانا إذا انتشر في الأفق وفي الحديث‏:‏ ‏(‏من أراد العلم فليثور القرآن‏)‏‏.‏ قال شمر‏:‏ تثوير القرآن قراءته ومفاتشة العلماء به‏.‏

قوله تعالى‏{‏قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين‏}‏ هذا جواب منهم لموسى عليه السلام لما قال، لهم‏{‏إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة‏}‏البقرة‏:‏ 67‏]‏ وذلك أنهم وجدوا قتيلا بين أظهرهم قيل‏:‏ اسمه عاميل واشتبه أمر قاتله عليهم، ووقع بينهم خلاف، فقالوا‏:‏ نقتتل ورسول الله بين أظهرنا، فأتوه وسألوه البيان - وذلك قبل نزول القسامة في التوراة، فسألوا موسى أن يدعو الله فسأل موسى عليه السلام ربه فأمرهم بذبح بقرة، فلما سمعوا ذلك من موسى وليس في ظاهره جواب عما سألوه عنه واحتكموا فيه عنده، قالوا‏:‏ أتتخذنا هزؤا‏؟‏ والهزء‏:‏ اللعب والسخرية، وقد تقدم‏.‏ وقرأ الجحدري ‏{‏أيتخذنا‏}‏ بالياء، أي قال ذلك بعضهم لبعض فأجابهم موسى عليه السلام بقوله‏{‏أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين‏}‏البقرة‏:‏ 67‏]‏ لأن الخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء جهل، فاستعاذ منه عليه السلام، لأنها صفة تنتفي عن الأنبياء‏.‏ والجهل نقيض العلم‏.‏ فاستعاذ من الجهل، كما جهلوا في قولهم‏:‏ أتتخذنا هزؤا، لمن يخبرهم عن الله تعالى، وظاهر هذا القول يدل على فساد اعتقاد من قاله‏.‏ ولا يصح إيمان من قال لنبي قد ظهرت معجزته، وقال‏:‏ إن الله يأمرك بكذا‏:‏ أتتخذنا هزؤا‏؟‏ ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صلى لوجب تكفيره‏.‏ وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء والمعصية، على نحو ما قال القائل للنبي صلى الله عليه وسلم في قسمة غنائم حنين‏:‏ إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله‏.‏ وكما قال له الآخر‏:‏ اعدل يا محمد وفي هذا كله أدل دليل على قبح الجهل، وأنه مفسد للدين‏.‏

‏{‏هزوا‏}‏ مفعول ثان، ويجوز تخفيف الهمزة تجعلها بين الواو والهمزة‏.‏ وجعلها حفص واوا مفتوحة، لأنها همزة مفتوحة قبلها ضمة فهي تجري على البدل، كقوله‏{‏السفهاء ولكن‏}‏‏.‏ ويجوز حذف الضمة من الزاي كما تحذفها من عضد، فتقول‏:‏ هزؤا، كما قرأ أهل الكوفة، وكذلك ‏{‏ولم يكن له كفؤا أحد‏}‏‏.‏ وحكى الأخفش عن عيسى بن عمر أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم ففيه لغتان‏:‏ التخفيف والتثقيل، نحو العسر واليسر والهزء‏.‏

ومثله ما كان من الجمع على فعل ككتب وكتب، ورسل ورسل، وعون وعون‏.‏ وأما قوله تعالى‏{‏وجعلوا له من عباده جزءا‏}‏الزخرف‏:‏ 15‏]‏ فليس مثل هزء وكفء، لأنه على فعل، من الأصل‏.‏ على ما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏

 مسألة‏:‏ في الآية دليل على منع الاستهزاء بدين الله ودين المسلمين ومن يجب تعظيمه، وأن ذلك جهل وصاحبه مستحق للوعيد‏.‏ وليس المزاح من الاستهزاء بسبيل، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح والأئمة بعده‏.‏ قال ابن خويز منداد‏:‏ وقد بلغنا أن رجلا تقدم إلى عبيدالله بن الحسن وهو قاضي الكوفة فمازحه عبيدالله فقال‏:‏ جبتك هذه من صوف نعجة أو صوف كبش‏؟‏ فقال له‏:‏ لا تجهل أيها القاضي فقال له عبيدالله‏:‏ وابن وجدت المزاج جهلا فتلا عليه هذه الآية، فأعرض عنه عبيدالله، لأنه رآه جاهلا لا يعرف المزح من الاستهزاء، وليس أحدهما من الآخر بسبيل‏.‏

 الآية رقم ‏(‏68‏)‏

‏{‏قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا ادع لنا ربك‏}‏ هذا تعنيت منهم وقلة طواعية، ولو امتثلوا الأمر وذبحوا أي بقرة كانت لحصل المقصود، لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، قاله ابن عباس وأبو العالية وغيرهما‏.‏ ونحو ذلك روى الحسن البصري عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ولغة بنى عامر ‏{‏ادع‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏يبين لنا‏}‏ مجزوم على جواب الأمر، ‏{‏ما هي‏}‏ ابتداء وخبر وماهية الشيء‏:‏ حقيقته وذاته التي هو عليها‏.‏

قوله تعالى‏{‏قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك‏}‏ في هذا دليل على جواز النسخ قبل وقت الفعل، لأنه لما أمر ببقرة اقتضى أي بقرة كانت، فلما زاد في الصفة نسخ الحكم الأول بغيره، كما لو قال‏:‏ في ثلاثين من الإبل بنت مخاض، ثم نسخه بابنة لبون أو حقة‏.‏ وكذلك ههنا لما عين الصفة صار ذلك نسخا للحكم المتقدم‏.‏ والفارض‏:‏ المسنة‏.‏ وقد فرضت تفرض فروضا، أي أسنت‏.‏ ويقال للشيء القديم فارض، قال الراجز‏:‏

شيب أصداغي فرأسي أبيض محامل فيها رجال فرض

يعني هرمي، قال آخر‏:‏

لعمرك قد أعطيت جارك فارضا تساق إليه ما تقوم على رجل

أي قديما، وقال آخر‏:‏

يا رب ذي ضغن علي فارض له قروء كقروء الحائض

أي قديم‏.‏ و‏{‏لا فارض‏}‏ رفع على الصفة لبقرة‏.‏ ‏{‏ولا بكر‏}‏عطف‏.‏ وقيل‏{‏لا فارض‏}‏ خبر مبتدأ مضمر، أي لا هي فارض وكذا ‏{‏لا ذلول‏}‏، وكذلك ‏{‏لا تسق الحرث‏}‏ وكذلك ‏{‏مسلمة‏}‏ فاعلمه‏.‏ وقيل‏:‏ الفارض التي قد ولدت بطونا كثيرة فيتسع جوفها لذلك، لأن معنى الفارض في اللغة الواسع، قال بعض المتأخرين‏.‏ والبكر‏:‏ الصغيرة التي لم تحمل‏.‏ وحكى القتبي أنها التي ولدت‏.‏ والبكر‏:‏ الأول من الأولاد، قال‏:‏

يا بكر بكرين ويا خلب الكبد أصبحت مني كذراع من عضد

والبكر أيضا في إناث البهائم وبني آدم‏:‏ ما لم يفتحله الفحل، وهي مكسورة الباء‏.‏ وبفتحها الفتي من الإبل‏.‏ والعوان‏:‏ النصف التي قد ولدت بطنا أو بطنين، وهي أقوى ما تكون من البقر وأحسنه، بخلاف الخيل، قال الشاعر يصف فرسا‏:‏

كميت بهيم اللون ليس بفارض ولا بعوان ذات لون مخصف

فرس أخصف‏:‏ إذا ارتفع البلق من بطنه إلى جنبه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ العوان من البقرة هي التي قد ولدت مرة بعد مرة‏.‏ وحكاه أهل اللغة‏.‏ ويقال‏:‏ إن العوان النخلة الطويلة، وهي فيما زعموا لغة يمانية‏.‏ وحرب عوان‏:‏ إذا كان قبلها حرب بكر، قال زهير‏:‏

إذا لقحت حرب عوان مضرة ضروس تهر الناس أنيابها عصل

أي لا هي صغيرة ولا هي مسنة، أي هي عوان، وجمعها ‏{‏عون‏}‏ بضم العين وسكون الواو وسمع ‏{‏عون‏}‏ بضم الواو كرسل‏.‏ وقد تقدم‏.‏ وحكى الفراء من العوان عونت تعوينا‏.‏

قوله تعالى‏{‏فافعلوا ما تؤمرون‏}‏ تجديد للأمر وتأكيد وتنبيه على ترك التعنت فما تركوه وهذا يدل على أن مقتضى الأمر الوجوب كما تقول الفقهاء، وهو الصحيح على ما هو مذكور في أصول الفقه، وعلى أن الأمر على الفور، وهو مذهب أكثر الفقهاء أيضا ويدل على صحة ذلك أنه تعالى استقصرهم حين لم يبادروا إلى فعل ما أمروا به فقال‏{‏فذبحوها وما كادوا يفعلون‏}‏البقرة‏:‏ 71‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ لا، بل على التراخي، لأنه لم يعنفهم على التأخير والمراجعة في الخطاب‏.‏ قال ابن خويز منداد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏69‏)‏

‏{‏قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها‏}{‏ما‏}استفهام مبتدأة و‏{‏لونها‏}‏ الخبر‏.‏ ويجوز نصب ‏{‏لونها‏}‏ بـ ‏{‏يبين‏}‏، وتكون ‏{‏ما‏}‏ زائدة‏.‏ واللون واحد الألوان وهو هيئة كالسواد والبياض والحمرة‏.‏ واللون‏:‏ النوع‏.‏ وفلان متلون‏:‏ إذا كان لا يثبت على خلاق واحد وحال واحد، قال‏:‏

كل يوم تتلون غير هذا بك أجمل

ولون البسر تلوينا‏:‏ إذا بدا فيه أثر النضج‏.‏ واللون‏:‏ الدقل، وهو ضرب من النخل‏.‏ قال الأخفش هو جماعة، واحدها لينة‏.‏

قوله تعالى‏{‏قال إنه يقول إنها بقرة صفراء‏}‏ جمهور المفسرين أنها صفراء اللون، من الصفرة المعروفة‏.‏ قال مكي عن بعضهم‏:‏ حتى القرن والظلف‏.‏ وقال الحسن وابن جبير‏:‏ كانت صفراء القرن والظلف فقط‏.‏ وعن الحسن أيضا‏{‏صفراء‏}‏ معناه سوداء، قال الشاعر‏:‏

تلك خيلي منه وتلك ركابيُُ هن صفر أولادها كالزبيب

قلت‏:‏ والأول أصح لأنه الظاهر، وهذا شاذ لا يستعمل مجازا إلا في الإبل، قال الله تعالى ‏{‏كأنه جمالة صفر‏}‏المرسلات‏:‏ 33‏]‏ وذلك أن السود من الإبل سوادها صفرة‏.‏ ولو أراد السواد لما أكده بالفقوع، وذلك نعت مختص بالصفرة، وليس يوصف السواد بذلك تقول العرب‏:‏ أسود حالك وحَلَكوك وحُلْكوك، ودجوجي وغربيب، وأحمر قانئ، وأبيض ناصع ولهق ولهاق ويقق، وأخضر ناضر، وأصفر فاقع، هكذا نص نقلة اللغة عن العرب‏.‏ قال الكسائي‏:‏ يقال فقع لونها يفقع فقوعا إذا خلصت صفرته‏.‏ والإفقاع‏:‏ سوء الحال‏.‏ وفواقع الدهر بوائقه‏.‏ وفقع بأصابعه إذا صوت، ومنه حديث ابن عباس‏:‏ نهى عن التفقيع في الصلاة، وهي الفرقعة، وهي غمز الأصابع حتى تنقض‏.‏ ولم ينصرف ‏{‏صفراء‏{‏ في معرفة ولا نكرة، لأن فيها ألف التأنيث وهى ملازمة فخالفت الهاء، لأن ما فيه الهاء ينصرف في النكرة، كفاطمة وعائشة‏.‏

قوله تعالى‏{‏فاقع لونها‏}‏ يريد خالصا لونها لا لون فيها سوى لون جلدها‏.‏

قوله تعالى‏{‏تسر الناظرين ‏}‏ قال وهب‏:‏ كأن شعاع الشمس يخرج من جلدها، ولهذا قال ابن عباس‏:‏ الصفرة تسر النفس‏.‏ وحض على لباس النعال الصفر، حكاه عنه النقاش‏.‏ وقال علي بن أبى طالب رضي الله عنه‏:‏ من لبس نعلي جلد أصفر قل همه، لأن الله تعالى يقول‏{‏صفراء فاقع لونها تسر الناظرين‏}‏ حكاه عنه الثعلبي‏.‏ ونهى ابن الزبير ومحمد بن أبي كثير عن لباس النعال السود، لأنها تهم‏.‏ ومعنى ‏{‏تسر‏}‏ تعجب‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ معناه في سمتها ومنظرها فهي ذات وصفين، والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏70‏)‏

‏{‏قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا‏}‏ سألوا سؤالا رابعا، ولم يمتثلوا الأمر بعد البيان‏.‏ وذكر البقر لأنه بمعنى الجمع، ولذلك قال‏{‏إن البقر تشابه علينا‏{‏ فذكره للفظ تذكير البقر‏.‏ قال قطرب‏:‏ جمع البقرة باقر وباقور وبقر‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ الباقر جمع باقرة، قال‏:‏ ويجمع بقر على باقورة، حكاه النحاس‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى إن جنس البقر‏.‏ وقرأ الحسن فيما ذكر النحاس، والأعرج فيما ذكر الثعلبي ‏{‏إن البقر تشابه‏}‏ بالتاء وشد الشين، جعله فعلا مستقبلا وأنثه‏.‏ والأصل تتشابه، ثم أدغم التاء في الشين‏.‏ وقرأ مجاهد ‏{‏تشبه‏}‏ كقراءتهما، إلا أنه بغير ألف‏.‏ وفي مصحف أبي ‏{‏تشابهت‏}‏ بتشديد الشين‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ وهو غلط، لأن التاء في هذا الباب لا تدغم إلا في المضارعة‏.‏ وقرأ يحيى بن يعمر ‏{‏إن الباقر يشابه‏}‏جعله فعلا مستقبلا، وذكر البقر وأدغم‏.‏ ويجوز ‏{‏إن البقر تشابه‏}‏ بتخفيف الشين وضم الهاء، وحكاها الثعلبي عن الحسن‏.‏ النحاس‏:‏ ولا يجوز ‏{‏يشابه‏}‏ بتخفيف الشين والياء، وإنما جاز في التاء لأن الأصل تتشابه فحذفت لاجتماع التاءين‏.‏ والبقر والباقر والبيقور والبقير لغات بمعنى، والعرب تذكره وتؤنثه، وإلى ذلك ترجع معاني القراءات في ‏{‏تشابه‏}‏‏.‏ وقيل إنما قالوا‏{‏إن البقر تشابه علينا‏}‏لأن وجوه البقر تشابه، ومنه حديث حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر ‏(‏فتنا كقطع الليل تأتي كوجوه البقر‏)‏‏.‏ يريد أنها يشبه بعضها بعضا‏.‏ ووجوه البقر تتشابه، ولذلك قالت بنو إسرائيل‏:‏ إن البقر تشابه علينا‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإنا إن شاء الله لمهتدون‏}‏ استثناء منهم، وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابة وانقياد، ودليل ندم على عدم موافقة الأمر‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لوما استثنوا ما اهتدوا إليها أبدا‏)‏‏.‏ وتقدير الكلام وإنا لمهتدون إن شاء الله‏.‏ فقدم على ذكر الاهتداء اهتماما به‏.‏ و‏{‏شاء‏}‏ في موضع جزم بالشرط، وجوابه عند سيبويه الجملة ‏{‏إن‏}‏ وما عملت فيه‏.‏ وعند أبي العباس المبرد محذوف‏.‏

 الآية رقم ‏(‏71‏)‏

‏{‏قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول ‏}‏قرأ الجمهور ‏{‏لا ذلول‏}‏ بالرفع على، الصفة لبقرة‏.‏ قال الأخفش‏{‏لا ذلول‏}‏ نعته ولا يجوز نصبه‏.‏ وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي ‏{‏لا ذلول‏}‏ بالنصب على النفي والخبر مضمر‏.‏ ويجوز لا هي ذلول، لا هي تسقى الحرث، هي مسلمة‏.‏ ومعنى ‏{‏لا ذلول‏}‏ لم يذللها العمل، يقال‏:‏ بقرة مذللة بينة الذل بكسر الذال ورجل ذليل بين الذل بضم الذال أي هي بقرة صعبة غير ريضة لم تذلل بالعمل‏.‏

قوله تعالى‏{‏تثير الأرض ولا تسقي الحرث‏}‏ ‏{‏تثير‏}‏ في موضع رفع على الصفة للبقرة أي هي بقرة لا ذلول مثيرة‏.‏ قال الحسن‏:‏ وكانت تلك البقرة وحشية ولهذا وصفها الله تعالى بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث أي لا يسنى بها لسقي الزرع ولا يسقى عليها‏.‏ والوقف ههنا حسن‏.‏ وقال قوم‏{‏تثير‏}‏ فعل مستأنف والمعنى إيجاب الحرث لها وأنها كانت تحرث ولا تسقي‏.‏ والوقف على هذا التأويل ‏{‏لا ذلول‏}والقول الأول أصح لوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ ما ذكره النحاس، عن علي بن سليمان أنه قال‏:‏ لا يجوز أن يكون ‏{‏تثير‏}‏ مستأنفا، لأن بعده ‏{‏ولا تسقي الحرث‏}‏، فلو كان مستأنفا لما جمع بين الواو و‏{‏لا‏}‏‏.‏ الثاني أنها لو كانت تثير الأرض لكانت الإثارة قد ذللتها، والله تعالى قد نفى عنها الذل بقوله‏{‏لا ذلول‏}‏ قلت‏:‏ ويحتمل أن تكون ‏{‏تثير الأرض‏}‏في غير العمل مرحا ونشاطا، كما قال امرؤ القيس‏:‏

يهيل ويذري تربه ويثيره إثارة نباث الهواجر مخمس

فعلى هذا يكون ‏{‏تثير‏}‏ مستأنفا، ‏{‏ولا تسقي‏}‏ معطوف عليه، فتأمله‏.‏ وإثارة الأرض‏:‏ تحريكها وبحثها، ومنه الحديث‏:‏ ‏(‏أثيروا القرآن فإنه علم الأولين والآخرين‏)‏ وفي رواية أخرى‏:‏ ‏(‏من أراد العلم فليثور القرآن‏)‏ وقد تقدم‏.‏ وفي التنزيل‏{‏وأثاروا الأرض‏}‏الروم‏:‏ 9‏]‏ أي قلبوها للزراعة‏.‏ والحرث‏:‏ ما حرث وزرع‏.‏ وسيأتي‏.‏

 مسألة‏:‏ في هذه الآية أدل دليل على حصر الحيوان بصفاته، وإذا ضبط بالصفة وحصر بها جاز السلم فيه‏.‏ وبه قال مالك وأصحابه والأوزاعي والليث والشافعي‏.‏ وكذلك كل ما يضبط بالصفة، لوصف الله تعالى في كتابه وصفا يقوم مقام التعيين، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها‏)‏‏.‏ أخرجه مسلم‏.‏ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الصفة تقوم مقام الرؤية، وجعل صلى الله عليه وسلم دية الخطأ في ذمة من أوجبها عليه دينا إلى أجل ولم يجعلها على الحلول‏.‏ وهو يرد قول الكوفيين أبي حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح حيث قالوا‏:‏ لا يجوز السلم في الحيوان‏.‏ وروي عن ابن مسعود وحذيفة وعبدالرحمن بن سمرة، لأن الحيوان لا يوقف على حقيقة صفته من مشي وحركة، وكل ذلك يزيد في ثمنه ويرفع من قيمته‏.‏ وسيأتي حكم السلم وشروطه في آخر السورة في آية الدين، إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏مسلمة‏}‏ أي هي مسلمة‏.‏ ويجوز أن يكون وصفا، أي أنها بقرة مسلمة من العرج وسائر العيوب، قاله قتادة وأبو العالية‏.‏ ولا يقال‏:‏ مسلمة من العمل لنفي الله العمل عنها‏.‏ وقال الحسن‏:‏ يعني سليمة القوائم لا أثر فيها للعمل‏.‏

قوله تعالى‏{‏لا شية فيها‏}‏ أي ليس فيها لون يخالف معظم لونها، هي صفراء كلها لا بياض فيها ولا حمرة ولا سواد، كما قال‏{‏فاقع لونها‏}‏‏.‏ وأصل ‏{‏شية‏{‏ وشي حذفت الواو كما حذفت من يشي، والأصل يوشي، ونظيره الزنة والعدة والصلة‏.‏ والشية مأخوذة من وشي الثوب إذا نسج على لونين مختلفين‏.‏ وثور موشى‏:‏ في وجهه وقوائمه سواد‏.‏ قال ابن عرفة‏:‏ الشية اللون‏.‏ ولا يقال لمن نم‏:‏ واش، حتى يغير الكلام ويلونه فجعله ضروبا ويزين منه ما شاء‏.‏ والوشي‏:‏ الكثرة‏.‏ ووشى بنو فلان‏:‏ كثروا‏.‏ ويقال‏:‏ فرس أبلق، وكبش أخرج، وتيس أبرق، وغراب أبقع، وثور أشيه كل ذلك بمعنى البلقة، هكذا نص أهل اللغة‏.‏

وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شددوا فشدد الله عليهم، ودين الله يسر، والتعمق في سؤال الأنبياء وغيرهم من العلماء مذموم، نسأل الله العافية‏.‏ وروي في قصص هذه البقرة روايات تلخيصها‏:‏ أن رجلا من بني إسرائيل ولد له ابن، وكانت له عجلة فأرسلها في غيضة وقال‏:‏ اللهم إني أستودعك هذه العجلة لهذا الصبي‏.‏ ومات الرجل، فلما كبر الصبي قالت له أمه وكان برا بها‏:‏ إن أباك استودع الله عجلة لك فاذهب فخذها، فذهب فلما رأته البقرة جاءت إليه حتى أخذ بقرنيها وكانت مستوحشة فجعل يقودها نحو أمه، فلقيه بنو إسرائيل ووجدوا بقرة على الصفة التي أمروا بها، فساموه فاشتط عليهم‏.‏ وكان قيمتها على ما روي عن عكرمة ثلاثة دنانير، فأتوا به موسى عليه السلام وقالوا‏:‏ إن هذا اشتط علينا، فقال لهم‏:‏ أرضوه في ملكه، فاشتروها منه بوزنها مرة، قاله عبيدة‏.‏ السدي‏:‏ بوزنها عشر مرات‏.‏ وقيل‏:‏ بملء مسكها دنانير‏.‏ وذكر مكي‏:‏ أن هذه البقرة نزلت من السماء ولم تكن من بقر الأرض فالله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏قالوا الآن جئت بالحق‏}‏ أي بينت الحق، قاله قتادة‏.‏ وحكى الأخفش‏{‏قالوا الآن‏}‏ قطع ألف الوصل، كما يقال‏:‏ يا الله‏.‏ وحكى وجها آخر ‏{‏قالوا لان‏}‏ بإثبات الواو‏.‏ نظيره قراءة أهل المدينة وأبي عمرو ‏{‏عادا لولى‏{‏ وقرأ الكوفيون ‏{‏قالوا الآن‏}‏ بالهمز‏.‏ وقراءة أهل المدينة ‏{‏قال لان‏}‏ بتخفيف الهمز مع حذف الواو لالتقاء الساكنين‏.‏ قال الزجاج‏{‏الآن‏}‏ مبني على الفتح لمخالفته سائر ما فيه الألف واللام، لأن الألف واللام دخلتا لغير عهد، تقول‏:‏ أنت إلى الآن هنا، فالمعنى إلى هذا الوقت‏.‏ فبنيت كما بني هذا، وفتحت النون لالتقاء الساكنين‏.‏ وهو عبارة عما بين الماضي والمستقبل‏.‏

قوله تعالى‏{‏فذبحوها وما كادوا يفعلون‏}‏ أجاز سيبويه‏:‏ كاد أن يفعل، تشبيها بعسى‏.‏ وقد تقدم أول السورة‏.‏ وهذا إخبار عن تثبيطهم في ذبحها وقلة مبادرتهم إلى أمر الله‏.‏ وقال القرظي محمد بن كعب‏:‏ لغلاء ثمنها‏.‏ وقيل‏:‏ خوفا من الفضيحة على أنفسهم في معرفة القاتل منهم، قاله وهب بن منبه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏72‏)‏

‏{‏وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون‏}‏

هذا الكلام مقدم على أول القصة، التقدير‏:‏ وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها‏.‏ فقال موسى‏:‏ إن الله يأمركم بكذا‏.‏ وهذا كقوله‏{‏الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا‏.‏ قيما‏}‏الكهف‏:‏ 1 - 2‏]‏ أي أنزل على عبده قيما ولم يجعل له عوجا، ومثله كثير، وقد بيناه أول القصة‏.‏ وفي سبب قتله قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ لابنة له حسناء احب أن يتزوجها ابن عمها فمنعه عمه، فقتله وحمله من قريته إلى قرية أخرى فألقاه هناك‏.‏ وقيل‏:‏ ألقاه بين قريتين‏.‏ الثاني‏:‏ قتله طلبا لميراثه، فإنه كان فقيرا وادعى قتله على بعض الأسباط‏.‏ قال عكرمة‏:‏ كان لبني إسرائيل مسجد له اثنا عشر بابا لكل باب قوم يدخلون منه، فوجدوا قتيلا في سبط من الأسباط، فادعى هؤلاء على هؤلاء، وادعى هؤلاء على هؤلاء، ثم أتوا موسى يختصمون إليه فقال‏{‏إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة‏}‏البقرة‏:‏ 67‏]‏ الآية‏.‏ ومعنى ‏{‏ادارأتم‏}‏البقرة‏:‏ 72‏]‏ الآية‏.‏ ومعنى ‏{‏ادارأتم‏}‏‏:‏ اختلفتم وتنازعتم، قال مجاهد‏.‏ وأصله تدارأتم ثم أدغمت التاء في الدال، ولا يجوز الابتداء بالمدغم، لأنه ساكن فزيد ألف الوصل‏.‏

قوله تعالى‏{‏والله مخرج‏}‏ ابتداء وخبر‏.‏ ‏{‏ما كنتم‏}‏ في موضع نصب بـ ‏{‏مخرج‏}‏، ويجوز حذف التنوين على الإضافة‏.‏ ‏{‏تكتمون‏}‏جمله في موضع خبر كان والعائد محذوف التقدير تكتمونه‏.‏

وعلى القول بأنه قتله طلبا لميراثه لم يرث قاتل عمد من حينئذ، قاله عبيدة السلماني‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ قتل هذا الرجل عمه ليرثه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وبمثله جاء شرعنا‏.‏ وحكى مالك رحمه الله في ‏{‏موطئه‏}‏ أن قصة أحيحة بن الجلاح في عمه هي كانت سبب ألا يرث قاتل، ثم ثبت ذلك الإسلام كما ثبت كثيرا من نوازل الجاهلية‏.‏ ولا خلاف بين العلماء أنه لا يرث قاتل العمد من الدية ولا من المال، إلا فرقة شذت عن الجمهور كلهم أهل بدع‏.‏ ويرث قاتل الخطأ من المال ولا يرث من الدية في قول مالك والأوزاعي وأبي ثور والشافعي، لأنه لا يتهم على أنه قتله ليرثه ويأخذ ماله 0 وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعي في قول له آخر‏:‏ لا يرث القاتل عمدا ولا خطأ شيئا من المال ولا من الدية‏.‏ وهو قول شريح وطاوس والشعبي والنخعي‏.‏ ورواه الشعبي عمر وعلي وزيد قالوا‏:‏ لا يرث القاتل عمدا ولا خطا شيئا‏.‏ وروي عن مجاهد القولان جميعا‏.‏ وقالت طائفة من البصريين‏:‏ يرث قاتل الخطأ من الدية ومن المال جميعا، حكاه أبو عمر‏.‏ وقول مالك أصح، على ما يأتي بيانه في آية المواريث إن شاء الله تعالى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏73‏)‏

‏{‏فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فقلنا اضربوه ببعضها‏}‏ قيل‏:‏ باللسان لأنه آلة الكلام‏.‏ وقيل‏:‏ بعجب الذنب، إذ فيه يركب خلق الإنسان‏.‏ وقيل‏:‏ بالفخذ‏.‏ وقيل‏:‏ بعظم من عظامها، والمقطوع به عضو من أعضائها، فلما ضرب به حيي وأخبر بقاتله ثم عاد ميتا كما كان‏.‏

 مسألة‏:‏ استدل مالك رحمه الله في رواية ابن وهب وابن القاسم على صحة القول بالقسامة بقول المقتول‏:‏ دمي عند فلان، أو فلان قتلني‏.‏ ومنعه الشافعي وجمهور العلماء، قالوا‏:‏ وهو الصحيح، لأن قول المقتول‏:‏ دمي عند فلان، أو فلان قتلني، خبر يحتمل الصدق والكذب‏.‏ ولا خلاف أن دم المدعى عليه معصوم إباحته إلا بيقين، ولا يقين مع الاحتمال، فبطل اعتبار قول المقتول دمي عند فلان‏.‏ وأما قتيل بني إسرائيل فكانت معجزة وأخبر تعالى أنه يحييه، وذلك يتضمن الإخبار بقاتله خبرا جزما لا يدخله احتمال، فافترقا‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ المعجزة كانت في إحيائه، فلما صار حيا كان كلامه كسائر كلام الناس كلهم في القبول والرد‏.‏ وهذا فن دقيق من العلم لم يتفطن له إلا مالك، وليس في القرآن أنه إذا أخبر وجب صدقه، فلعله أمرهم بالقسامة معه واستبعد ذلك البخاري والشافعي وجماعة من العلماء فقالوا‏:‏ كيف يقبل قوله في الدم وهو لا يقبل قوله في درهم‏.‏

 مسألة‏:‏ اختلف العلماء في الحكم بالقسامة، فروي عن سالم وأبي قلابة وعمر بن عبدالعزيز والحكم بن عيينة التوقف في الحكم بها‏.‏ وإليه مال البخاري، لأنه أتى بحديث القسامة في غير موضعه‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ الحكم بالقسامة ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم اختلفوا في كيفية الحكم بها، فقالت طائفة‏:‏ يبدأ فيها المدعون بالأيمان فإن حلفوا‏]‏ استحقوا، وإن نكلوا حلف المدعى عليهم خمسين يمينا وبرئوا‏.‏ هذا قول أهل المدينة والليث والشافعي وأحمد وأبي ثور‏.‏ وهو مقتضى حديث حويصة ومحيصة، خرجه الأئمة مالك وغيره‏.‏ وذهبت طائفة إلى أنه يبدأ بالأيمان المدعى عليهم فيحلفون ويبرؤون‏.‏ روي هذا عن عمر بن الخطاب والشعبي والنخعي، وبه قال الثوري والكوفيون، واحتجوا بحديث شعبة بن عبيد عن بشير بن يسار، وفيه‏:‏ فبدأ بالأيمان المدعى عليهم وهم اليهود‏.‏ وبما رواه أبو داود عن الزهري عن أبى سلمة بن عبدالرحمن عن رجال من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود وبدأ بهم‏:‏ ‏(‏أيحلف منكم خمسون رجلا‏)‏‏.‏ فأبو ا، فقال للأنصار‏:‏ ‏(‏استحقوا‏)‏ فقالوا‏:‏ نحلف على الغيب يا رسول الله فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم دية على يهود، لأنه وجد بين أظهرهم‏.‏ وبقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ولكن اليمين على المدعى عليه‏)‏ فعينوا‏.‏

قالوا‏:‏ وهذا هو الأصل المقطوع به في الدعاوى الذي نبه الشرع على حكمته بقوله عليه السلام ‏(‏لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه‏)‏ رد عليهم أهل المقالة الأولى فقالوا‏:‏ حديث سعيد بن عبيد في تبدية اليهود وهم عند أهل الحديث، وقد أخرجه النسائي وقال‏:‏ ولم يتابع سعيد في هذه الرواية فيما أعلم، وقد أسند حديث بشير عن سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالمدعين يحيى بن سعيد وابن عيينة وحماد بن زيد وعبدالوهاب الثقفي وعيسى بن حماد وبشر بن المفضل، فهؤلاء سبعة‏.‏ وإن كان أرسله مالك فقد وصله جماعة الحفاظ، وهو أصح من حديث سعيد بن عبيد‏.‏ قال أبو محمد الأصيلي‏:‏ فلا يجوز أن يعترض بخبر واحد على خبر جماعة، مع أن سعيد بن عبيد قال في حديثه‏:‏ فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة من أبل الصدقة، والصدقة لا تعطى في الديات ولا يصالح بها عن غير أهلها، وحديث أبي داود مرسل فلا تعارض به الأحاديث الصحاح المتصلة، وأجابوا عن التمسك بالأصل بأن هذا الحكم أصل بنفسه لحرمة الدماء‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، والحكم بظاهر ذلك يجب، إلا أن يخص الله في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم حكما في شيء من الأشياء فيستثنى من جملة هذا الخبر‏.‏ فمما دل عليه الكتاب إلزام القاذف حد المقذوف إذا لم يكن معه أربعة شهداء يشهدون له على صدق ما رمي به المقذوف وخص من رمى زوجته بأن أسقط عنه الحد إذا شهد أربع شهادات‏.‏ ومما خصته السنة حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة‏.‏ وقد روى ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏البينة على من ادعى واليمين على من أنكر إلا في القسامة‏)‏‏.‏‏"‏ خرجه الدارقطني‏"‏‏.‏ وقد احتج مالك لهذه المسألة في موطئه بما فيه كفاية، فتأمله هناك‏.‏

 مسألة‏:‏ واختلفوا أيضا في وجوب القود بالقسامة، فأوجبت طائفة القود بها، وهو قول مالك والليث وأحمد وأبي ثور، لقوله عليه السلام لحويصة ومحيصة وعبدالرحمن‏:‏ ‏(‏أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم‏)‏‏.‏ و‏"‏روى أبو داود عن عمرو بن شعيب‏"‏ عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجلا بالقسامة من بني نضر بن مالك‏.‏ قال الدارقطني‏:‏ نسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده صحيحة، وكذلك أبو عمر بن عبدالبر يصحح حديث عمرو بن شعيب، ويحتج به، وقال البخاري‏:‏ رأيت علي بن المديني وأحمد بن حنبل والحميدي وإسحاق بن راهويه يحتجون به قاله الدارقطني في السنن‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ لا قود بالقسامة، وإنما توجب الدية‏.‏ روي هذا عن عمر وابن عباس، وهو قول النخعي والحسن، وإليه ذهب الثوري والكوفيون الشافعي وإسحاق، واحتجوا بما رواه مالك عن ابن أبي ليلى بن عبدالله عن سهل بن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله للأنصار‏:‏ ‏(‏إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا يدل على الدية لا على القود، قالوا‏:‏ ومعنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏وتستحقون دم صاحبكم‏)‏ دية دم قتيلكم لأن اليهود ليسوا بأصحاب لهم، ومن استحق دية صاحبه فقد استحق دمه، لأن الدية قد تؤخذ في العمد فيكون ذلك استحقاقا للدم‏.‏

 مسألة‏:‏ الموجب للقسامة اللوث ولا بد منه‏.‏ واللوث‏:‏ أمارة تغلب على الظن صدق مدعي القتل، كشهادة العدل الواحد على رؤية القتل، أو يرى المقتول يتشحط في دمه، والمتهم نحوه أو قربه عليه آثار القتل‏.‏ وقد اختلف في اللوث والقول به، فقال مالك‏:‏ هو قول المقتول دمي عند فلان‏.‏ والشاهد العدل لوث‏.‏ كذا في رواية ابن القاسم عنه‏.‏ وروى أشهب عن مالك أنه يقسم مع الشاهد غير العدل ومع المرأة‏.‏ و روى ابن وهب أن شهادة النساء لوث‏.‏ وذكر محمد عن ابن القاسم أن شهادة المرأتين لوث دون شهادة المرأة الواحدة‏.‏ قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ اختلف في اللوث اختلافا كثيرا، مشهور المذهب أنه الشاهد العدل‏.‏ وقال محمد‏:‏ هو أحب إلي‏.‏ قال‏:‏ وأخذ به ابن القاسم وابن عبدالحكم‏.‏ وروي عن عبدالملك بن مروان‏:‏ أن المجروح أو المضروب إذا قال دمي عند فلان ومات كانت القسامة‏.‏ وبه قال مالك والليث بن سعد‏.‏ واحتج مالك بقتيل بني إسرائيل أنه قال‏:‏ قتلني فلان‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ اللوث الشاهد العدل، أو يأتي ببينة وإن لم يكونوا عدولا‏.‏ وأوجب الثوري والكوفيون القسامة بوجود القتيل فقط، واستغنوا عن مراعاة قول المقتول وعن الشاهد، قالوا‏:‏ إذا وجد قتيل في محلة قوم وبه أثر حلف أهل ذلك الموضع أنهم لم يقتلوه ويكون عقله عليهم، وإذا لم يكن، به أثر لم يكن على العاقلة شيء إلا أن تقوم البينة على واحد‏.‏ وقال سفيان‏:‏ وهذا مما أجمع عليه عندنا، وهو قول ضعيف خالفوا فيه أهل العلم، ولا سلف لهم فيه، وهو مخالف للقرآن والسنة، ولأن فيه إلزام العاقلة مالا بغير بينة ثبتت عليهم ولا إقرار منهم‏.‏ وذهب مالك والشافعي إلى أن القتيل إذا وجد في محلة قوم أنه هدر، لا يؤخذ به أقرب الناس دارا، لأن القتيل قد يقتل ثم يلقى على باب قوم ليلطخوا به، فلا يؤاخذ بمثل ذلك حتى تكون الأسباب التي شرطوها في وجوب القسامة‏.‏ وقد قال عمر بن عبدالعزيز هذا مما يؤخر فيه القضاء حتى يقضي الله فيه يوم القيامة‏.‏

مسألة‏:‏ قال القاسم بن مسعدة قلت للنسائي‏:‏ لا يقول مالك بالقسامة إلا باللوث، فلم أورد حديث القسامة ولا لوث فيه‏؟‏ قال النسائي‏:‏ أنزل مالك العداوة التي كانت بينهم وببن اليهود بمنزلة اللوث، وأنزل اللوث أو قول الميت بمنزلة العداوة‏.‏ قال ابن أبي زيد‏:‏ وأصل هذا في قصة بني إسرائيل حين أحيا الله الذي ضرب ببعض البقرة فقال‏:‏ قتلني فلان، وبأن العداوة لوث قال الشافعي‏:‏ ولا نرى قول المقتول لوثا، كما تقدم‏.‏ قال الشافعي‏:‏ إذا كان بين قوم وقوم عداوة ظاهرة كالعداوة التي كانت بين الأنصار واليهود، ووجد قتيل في أحد الفريقين ولا يخالطهم غيرهم وجبت القسامة فيه‏.‏

 مسألة‏:‏ واختلفوا في القتيل بوجد في المحلة التي أكراها أربابها، فقال أصحاب الرأي‏:‏ هو على أهل الخطة وليس على السكان شيء، فإن باعوا دورهم ثم وجد قتيل فالدية على المشتري وليس على السكان شيء، وإن كان أرباب الدور غيبا وقد أكروا دورهم فالقسامة والدية على أرباب الدور الغيب وليس على السكان الذين وجد القتيل بين أظهرهم شيء‏.‏

ثم رجع يعقوب من بينهم عن هذا القول فقال‏:‏ القسامة والدية على السكان في الدور‏.‏ وحكى هذا القول عن ابن أبي ليلى، واحتج بأن أهل خيبر كانوا عمالا سكانا يعملون فوجد القتيل فيهم‏.‏ قال الثوري ونحن نقول‏:‏ هو على أصحاب الأصل، يعني أهل الدور‏.‏ وقال أحمد‏:‏ القول قول ابن أبي ليلى في القسامة لا في الدية‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ وذلك كله سواء، ولا عقل ولا قود إلا ببينة تقوم، أو ما يوجب القسامة فيقسم الأولياء‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وهذا أصح‏.‏

 مسألة‏:‏ ولا يحلف في القسامة أقل من خمسين يمينا، لقول عليه السلام في حديث حويصة ومحيصة‏:‏ ‏(‏يقسم خمسين منكم على رجل منهم‏)‏‏.‏ فإن كان المستحقون خمسين حلف كل واحد منهم يمينا واحدة، فإن كانوا أقل من ذلك أو نكل منهم من لا يجوز عفوه ردت الأيمان عليهم بحسب عددهم‏.‏ ولا يحلف في العمد أقل من اثنين من الرجال، لا يحلف فيه الواحد من الرجال ولا النساء، يحلف الأولياء ومن يستعين بهم الأولياء من العصبة خمسين يمينا‏.‏ هذا مذهب مالك والليث والثوري والأوزاعي وأحمد وداود‏.‏ و روى مطرف عن مالك أنه لا يحلف مع المدعى عليه أحد ويحلف هم أنفسهم كما لو كانوا واحدا فأكثر خمسين يمينا يبرئون بها أنفسهم، وهو قول الشافعي‏.‏ قال الشافعي‏:‏ لا يقسم إلا وارث، كان القتل عمدا أو خطأ‏.‏ ولا يحلف على مال ويستحقه إلا من له الملك لنفسه أومن جعل الله له الملك من الورثة، والورثة يقسمون على قدر مواريثهم‏.‏ وبه قال أبو ثور واختاره ابن المنذر وهو الصحيح، لأن من لم يدع عليه لم يكن له سبب يتوجه عليه فيه يمين‏.‏ ثم مقصود هذه الأيمان البراءة من الدعوى ومن لم يدع عليه بريء‏.‏ وقال مالك في الخطأ‏:‏ يحلف فيها الواحد من الرجال والنساء، فمهما كملت خمسين يمينا من واحد أو أكثر استحق الحالف ميراثه، ومن نكل لم يستحق شيئا، فإن جاء من غاب حلف من الأيمان ما كان يجب عليه لو حضر بحسب ميراثه‏.‏ هذا قول مالك المشهور عنه، وقد روى عنه أنه‏.‏ لا يرى في الخطأ قسامة‏.‏

وتتميم مسائل القسامة وفروعها وأحكامها مذكور في كتب الفقه والخلاف، وفيما ذكرناه كفاية، والله الموفق‏.‏

 مسألة‏:‏ في قصة البقرة هذه دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا، وقال به طوائف من المتكلمين وقوم من الفقهاء، واختاره الكرخي ونص عليه ابن بكير القاضي من علمائنا، وقال القاضي أبو محمد عبدالوهاب‏:‏ هو الذي تقتضيه أصول مالك ومنازعه في كتبه، وإليه مال الشافعي، وقد قال الله‏{‏فبهداهم اقتده‏}‏الأنعام‏:‏ 90‏]‏ على ما يأتي إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏كذلك يحي الله الموتى ‏{‏أي كما أحيا هذا بعد موته كذلك يحيي الله كل من مات فالكاف في موضع نصب، لأنه نعت لمصدر محذوف‏.‏ ‏{‏ويريكم آياته‏}‏ أي علاماته وقدرته‏.‏ ‏{‏لعلكم تعقلون‏{‏ كي تعقلوا وقد تقدم أي تمتنعون من عصيانه وعقلت نفسي عن كذا أي منعتها منه والمعاقل‏:‏ الحصون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏74‏)‏

‏{‏ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ثم قست قلوبكم من بعد ذلك‏}القسوة‏:‏ الصلابة والشدة واليبس وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى‏.‏ قال أبو العالية وقتادة وغيرهما‏:‏ المراد قلوب جميع بني إسرائيل‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ المراد قلوب ورثة القتيل، لأنهم حين حيي وأخبر بقاتله وعاد إلى موته أنكروا قتله، وقالوا‏:‏ كذب، بعد ما رأوا هذه الآية العظمى، فلم يكونوا قط أعمى قلوبا، ولا أشد تكذيبا لنبيهم منهم عند ذلك، لكن نفذ حكم الله بقتله‏.‏ ‏"‏روى الترمذي عن عبدالله بن عمر ‏"‏قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي‏)‏‏.‏ ‏"‏وفي مسند البزار عن أنس‏"‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أربعة من الشقاء جمود العين وقساء القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا‏.‏

قوله تعالى‏{‏فهي كالحجارة أو أشد قسوة‏}‏ ‏{‏أو‏}‏ قيل هي بمعنى الواو كما قال‏{‏آثما أو كفورا‏}‏الإنسان‏:‏ 24‏]‏‏.‏ ‏{‏عذرا أو نذرا‏{‏ وقال الشاعر‏:‏

نال الخلافة أو كانت له قدرا

أي وكانت‏.‏ وقيل‏:‏ هي بمعنى بل، كقوله تعالى‏{‏وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون‏}‏الصافات‏:‏ 147‏]‏ المعنى بل يزيدون‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

بدت مثل الشمس في رونق الضحى وصورتها أو أنت في العين أملح

أي بل أنت وقيل‏:‏ معناها الإبهام على المخاطب، ومنه قول أبي الأسود الدؤلي‏:‏

أحب محمدا حبا شديدا وعباسا وحمزة أو عليا

فإن يك حبهم رشدا أصبه ولست بمخطئ إن كان غيا

ولم يشك أبو الأسود أن حبهم رشد ظاهر، وإنما قصد الإبهام‏.‏ وقد قيل لأبي الأسود حين قال ذلك‏:‏ شككت قال‏:‏ كلا، ثم استشهد بقوله تعالى‏{‏وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين‏}‏سبأ‏:‏ 24‏]‏ وقال‏:‏ أو كان شاكا من أخبر بهذا‏!‏ وقيل‏:‏ معناها التخيير، أي شبهوها بالحجارة تصيبوا، أو بأشد من الحجارة تصيبوا، وهذا كقول القائل‏:‏ جالس الحسن أو ابن سيرين، وتعلم الفقه أو الحديث أو النحو‏.‏ قيل‏:‏ بل هي على بابها من الشك، ومعناها عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم أن لو شاهدتم قسوتها لشككتم‏:‏ أهي كالحجارة أو أشد من الحجارة‏؟‏ وقد قيل هذا المعنى في قوله تعالى‏{‏إلى مائة ألف أو يزيدون‏}‏الصافات‏:‏ 147‏]‏ وقالت فرقة‏:‏ إنما أراد الله تعالى أن فيهم من قلبه كالحجر، وفيهم من قلبه أشد من الحجر فالمعنى‏:‏ هم فرقتان‏.‏

‏{‏أو أشد‏}‏ أشد مرفوع بالعطف على موضع الكاف في قوله ‏{‏كالحجارة‏}‏، لأن المعنى فهي مثل الحجارة أو أشد‏.‏ ويجوز أو ‏{‏أشد‏{‏ بالفتح عطف على الحجارة‏.‏ و‏{‏قسوة‏}‏ نصب على التمييز‏.‏ وقرأ أبو حيوة ‏{‏قساوة‏}‏ والمعنى واحد‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء‏}‏ قد تقدم معنى الانفجار‏.‏ ويشقق أصله بتشقق، أدغمت التاء في الشين، وهذه عبارة عن العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهارا، أو عن الحجارة التي تتشقق وإن لم يجر ماء منفسح‏.‏ وقرأ ابن مصرف ‏{‏ينشقق‏}‏ بالنون، وقرأ ‏{‏لما يتفجر‏{‏ ‏{‏لما يتشقق‏}‏ بتشديد ‏{‏لما‏}‏ في الموضعين‏.‏ وهي قراءة غير متجهة‏.‏ وقرأ مالك بن دينار ‏{‏ينفجر‏}‏ بالنون وكسر الجيم‏.‏ قال قتادة‏:‏ عذر الحجارة ولم يعذر شقي بني آدم‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ يجوز لما تتفجر بالتاء، ولا يجوز لما تتشقق بالتاء، لأنه إذا قال تتفجر أنثه بتأنيث الأنهار، وهذا لا يكون في تشقق‏.‏ قال النحاس‏:‏ يجوز ما أنكره على المعنى، لأن المعنى وأن منها لحجارة تتشقق، وأما يشقق فمحمول على لفظ ما‏.‏ والشق واحد الشقوق، فهو في الأصل مصدر، تقول‏:‏ بيد فلان ورجليه شقوق، ولا تقل‏:‏ شقاق، إنما الشقاق داء يكون بالدواب، وهو تشقق يصيب أرساغها وربما ارتفع إلى وظيفها، عن يعقوب‏.‏ والشق‏:‏ الصبح‏.‏ و‏{‏ما‏}‏ في قوله‏{‏لما يتفج‏}‏في موضع نصب، لأنها اسم إن واللام للتأكيد‏.‏ ‏{‏منه‏}‏ على لفظ ما، ويجوز منها على المعنى، وكذلك ‏{‏وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء‏}‏‏.‏ وقرأ قتادة ‏{‏وإن‏}‏ في الموضعين، مخففة من الثقيلة‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن منها لما يهبط من خشية الله‏}‏ يقول إن من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم، لخروج الماء منها وترديها‏.‏ قال مجاهد‏:‏ ما تردى حجر من رأس جبل، ولا تفجر نهر‏.‏ من حجر، ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله، نزل بذلك القرآن الكريم‏.‏ ومثله عن ابن جريج‏.‏ وقال بعض المتكلمين في قوله‏{‏وإن منها لما يهبط من خشية الله‏}‏‏:‏ البرد الهابط من السحاب‏.‏ وقيل‏:‏ لفظة الهبوط مجاز، وذلك أن الحجارة لما كانت القلوب تعتبر بخلقها، وتخشع بالنظر إليها، أضيف تواضع الناظر إليها، كما قالت العرب‏:‏ ناقة تاجرة، أي تبعث من يراها على شرائها‏.‏ وحكى الطبري عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة، كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله‏{‏يريد أن ينقض‏}‏، وكما قال زيد الخيل‏:‏

لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع

وذكر ابن بحر أن الضمير في قوله تعالى‏{‏وإن منها‏}‏راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة أي من القلوب لما يخضع من خشيه الله‏.‏

قلت‏:‏ كل ما قيل يحتمله اللفظ، والأول صحيح، فإنه لا يمتنع أن يعطى بعض الجمادات المعرفة فيعقل، كالذي روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب، فلما تحول عنه حن، وثبت عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية إني لأعرفه الآن‏)‏‏.‏ وكما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏قال لي ثبير اهبط فإني أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني الله‏)‏‏.‏ فناداه حراء‏:‏ إلي يا رسول الله‏.‏ وفي التنزيل‏{‏إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال‏}‏الأحزاب‏:‏ 72‏]‏ الآية‏.‏ وقال‏{‏لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله‏}‏الحشر‏:‏ 21‏]‏ يعني تذللا وخضوعا، وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة ‏{‏سبحان‏}‏إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما الله بغافل عما تعملون‏}‏ ‏{‏بغافل‏}‏ في موضع نصب على لغة أهل الحجاز، وعلى لغة تميم في موضع رفع‏.‏ والياء توكيد ‏{‏عما تعملون‏}‏ أي عن عملكم حتى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا يحصيها عليكم، ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره‏.‏ ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره‏}‏الزلزلة‏:‏ 7، 8‏]‏ ولا تحتاج ‏{‏ما‏}‏ إلى عائد إلا أن يجعلها بمعنى الذي فيحذف العائد لطول الاسم، أي عن الذي تعملونه‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏يعلمون‏}‏ بالياء، والمخاطبة على هذا لمحمد عليه السلام‏.‏

 الآية رقم ‏(‏75‏)‏

‏{‏أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏أفتطمعون أن يؤمنوا لكم‏}‏ هذا استفهام فيه معنى الإنكار، كأنه أيأسهم من إيمان هذه الفرقة من اليهود، أي إن كفروا فلهم سابقة في ذلك‏.‏ والخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار الذي كان بينهم‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، عن ابن عباس‏.‏ أي لا تحزن على تكذيبهم إياك، وأخبره أنهم من أهل السوء الذين مضوا‏.‏ و‏{‏أن‏}‏ في موضع نصب، أي في أن يؤمنوا، نصب بأن، ولذلك حذفت منه النون‏.‏ يقال‏:‏ طمع فيه طمعا وطماعية - مخفف - فهو طمع، على وزن فعل‏.‏ وأطمعه فيه غيره‏.‏ ويقال في التعجب‏:‏ طمع الرجل - بضم الميم - أي صار كثير الطمع‏.‏ والطمع‏:‏ رزق الجند، يقال‏:‏ أمر لهم الأمير بأطماعهم، أي بأرزاقهم‏.‏ وامرأة مطماع‏:‏ تطمع ولا تمكن‏.‏

قوله تعالى‏{‏وقد كان فريق منهم‏}‏ الفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه، وجمعه في أدنى العدد أفرقة، وفي الكثير أفرقاء‏.‏ قوله تعالى‏{‏يسمعون‏}‏ في موضع نصب خبر ‏{‏كان‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون الخبر ‏{‏منهم‏}‏، ويكون ‏{‏يسمعون‏}‏ نعتا لفريق وفيه بُعد‏.‏

قوله تعالى‏{‏كلام الله‏{‏ قراءة الجماعة‏.‏ وقرأ الأعمش ‏{‏كلم الله‏{‏ على جمع كلمة‏.‏ قال سيبويه‏:‏ واعلم أن ناسا من ربيعة يقولون ‏{‏منهم‏}‏ بكسر الهاء اتباعا لكسرة الميم، ولم يكن المسكن حاجزا حصينا عنده‏.‏ ‏{‏كلام الله‏}‏ مفعول بـ ‏{‏يسمعون‏}‏‏.‏ والمراد السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام، فسمعوا كلام الله فلم يمتثلوا أمره، وحرفوا القول في إخبارهم لقومهم‏.‏ هذا قول الربيع وابن إسحاق، وفي هذا القول ضعف‏.‏ ومن قال‏:‏ إن السبعين سمعوا ما سمع موسى فقد أخطأ، وأذهب بفضيلة موسى واختصاصه بالتكليم‏.‏ وقد قال السدي وغيره‏:‏ لم يطيقوا سماعه، واختلطت أذهانهم ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعيده لهم، فلما فرغوا وخرجوا بدلت طائفة منهم ما سمعت من كلام الله على لسان نبيهم موسى عليه السلام، كما قال تعالى‏{‏وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله‏}‏التوبة‏:‏ 6‏]‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد ‏"‏روى الكلبي عن أبي صالح ‏"‏عن ابن عباس أن قوم موسى سألوا موسى أن يسأل ربه أن يسمعهم كلامه، فسمعوا صوتا كصوت الشبور‏{‏إني أنا الله لا إله إلا أنا الحي القيوم أخرجتكم من مصر بيد رفيعة وذراع شديدة‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ هذا حديث باطل لا يصح، رواه ابن مروان عن الكلبي وكلاهما ضعيف لا يحتج به وإنما الكلام شيء خص به موسى من بين جميع ولد آدم، فإن كان كلم قومه أيضا حتى أسمعهم كلامه فما فضل موسى عليهم، وقد قال وقوله الحق‏{‏إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي‏}‏الأعراف‏:‏ 144‏]‏‏.‏ وهذا واضح‏.‏

واختلف الناس بماذا عرف موسى كلام الله ولم يكن سمع قبل ذلك خطابه، فمنهم من قال‏:‏ إنه سمع كلاما ليس بحروف وأصوات، وليس فيه تقطيع ولا نفس، فحينئذ علم أن ذلك ليس هو كلام البشر وإنما هو كلام رب العالمين‏.‏ وقال آخرون‏:‏ إنه لما سمع كلاما لا من جهة، وكلام البشر يسمع من جهة من الجهات الست، علم أنه ليس من كلام البشر‏.‏ وقيل‏:‏ إنه صار جسده كله مسامع حتى سمع بها ذلك الكلام، فعلم أنه كلام الله‏.‏ وقيل فيه‏:‏ إن المعجزة دلت على أن ما سمعه هو كلام الله، وذلك أنه قيل له‏:‏ ألق عصاك، فألقاها فصارت ثعبانا، فكان ذلك علامة على صدق الحال، وأن الذي يقول له‏{‏إني أنا ربك‏}‏طه‏:‏ 12‏]‏ هو الله جل وعز‏.‏ وقيل‏:‏ إنه قد كان أضمر في نفسه شيئا لا يقف عليه إلا علام الغيوب، فأخبره الله تعالى في خطابه بذلك الضمير، فعلم أن الذي يخاطبه هو الله جل وعز‏.‏ وسيأتي في سورة ‏{‏القصص‏}‏ بيان معنى قوله تعالى‏{‏نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة‏}‏القصص‏:‏ 30‏]‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم يحرفونه‏}‏قال مجاهد والسدي‏:‏ هم علماء اليهود الذين يحرفون التوراة فيجعلون الحرام حلالا والحلال حراما اتباعا لأهوائهم‏.‏ قوله تعالى‏{‏من بعد ما عقلوه وهم يعلمون‏}‏ أي عرفوه وعلموه‏.‏ وهذا توبيخ لهم، أي إن هؤلاء اليهود قد سلفت لآبائهم أفاعيل سوء وعناد فهؤلاء على ذلك السنن، فكيف تطمعون في إيمانهم

ودل هذا الكلام أيضا على أن العالم بالحق المعاند فيه بعيد من الرشد، لأنه علم الوعد والوعيد ولم ينهه ذلك عن عناده‏.‏

 الآية رقم ‏(‏76 ‏:‏77‏)‏

‏{‏وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون، أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا‏}‏ هذا في المنافقين‏.‏ أصل لقوا‏:‏ لقيوا وقد تقدم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم‏}‏ الآية في اليهود، وذلك أن ناسا منهم أسلموا ثم نافقوا فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذب به آباؤهم، فقالت لهم اليهود‏{‏أتحدثونهم بما فتح الله عليكم‏}‏ أي حكم الله عليكم من العذاب، ليقولوا نحن أكرم على الله منكم، عن ابن عباس والسدي‏.‏ وقيل‏:‏ إن عليا لما نازل قريظة يوم خيبر سمع سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف إليه وقال‏:‏ يا رسول الله، لا تبلغ إليهم، وعرض له، فقال‏:‏ ‏(‏أظنك سمعت شتمي منهم لو رأوني لكفوا عن ذلك‏)‏ ونهض إليهم، فلما رأوه أمسكوا، فقال لهم‏:‏ ‏(‏أنقضتم العهد يا إخوة القردة والخنازير أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته‏)‏ فقالوا‏:‏ ما كنت جاهلا يا محمد فلا تجهل علينا، من حدثك بهذا‏؟‏ ما خرج هذا الخبر إلا من عندنا‏!‏ روي هذا المعنى عن مجاهد‏.‏

‏{‏وإذا خلا‏}‏ الأصل في ‏{‏خلا‏}‏ خلو، قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وتقدم معنى ‏{‏خلا‏}‏ في أول السورة‏.‏ ومعنى ‏{‏فتح‏}‏ حكم‏.‏ والفتح عند العرب‏:‏ القضاء والحكم، ومنه قوله تعالى‏{‏ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين‏}‏ أي الحاكمين، والفتاح‏:‏ القاضي بلغة اليمن، يقال‏:‏ بيني وبينك الفتاح، قيل ذلك لأنه ينصر المظلوم على الظالم‏.‏ والفتح‏:‏ النصر، ومنه قوله‏{‏يستفتحون على الذين كفروا‏}‏البقرة‏:‏ 89‏]‏، وقوله‏{‏إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح‏}‏الأنفال‏:‏ 19‏]‏‏.‏ ويكون بمعنى الفرق بين الشيئين‏.‏

قوله تعالى‏{‏ليحاجوكم به‏}‏ نصب بلام كي، وإن شئت بإضمار أن، وعلامة النصب، حذف النون‏.‏ قال يونس‏:‏ وناس من العرب يفتحون لام كي‏.‏ قال الأخفش‏:‏ لأن الفتح الأصل‏.‏ قال خلف الأحمر‏:‏ هي لغة بني العنبر‏.‏ ومعنى ‏{‏ليحاجوكم‏}‏ ليعيروكم، ويقولوا نحن أكرم على الله منكم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ليحتجوا عليكم بقولكم، يقولون كفرتم به بعد أن وقفتم على صدقه‏.‏ وقيل‏:‏ إن الرجل من اليهود كان يلقى صديقه من المسلمين فيقول له‏:‏ تمسك بدين محمد فإنه نبي حقا‏.‏

قوله تعالى‏{‏عند ربكم‏{‏ قيل في الآخرة، كما قال‏{‏ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون‏}‏الزمر‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ عند ذكر ربكم‏.‏ وقيل‏{‏عند‏}‏ بمعنى ‏{‏في‏}‏ أي ليحاجوكم به في ربكم، فيكونوا أحق به منكم لظهور الحجة عليكم، وروي عن الحسن‏.‏ والحجة‏:‏ الكلام المستقيم على الإطلاق، ومن ذلك محجة الطريق‏.‏ وحاججت فلانا فحججته، أي غلبته بالحجة‏.‏ ومنه الحديث‏:‏ ‏(‏فحج آدم موسى‏)‏

قوله تعالى‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ قيل‏:‏ هو من قول الأحبار للأتباع‏.‏ وقيل‏:‏ هو خطاب من الله تعالى للمؤمنين، أي أفلا تعقلون أن بني إسرائيل لا يؤمنون وهم بهذه الأحوال، ثم وبخهم توبيخا يتلى فقال‏{‏أولا يعلمون‏}الآية‏.‏ فهو استفهام معناه التوبيخ والتقريع‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏يعلمون‏}‏ بالياء، وابن محيصن بالتاء، خطابا للمؤمنين‏.‏ والذي أسروه كفرهم، والذي أعلنوه الجحد به‏.‏